Translate

الاثنين، يوليو 09، 2012

قطار الحياه


لا أتذكر كيف بدأ هذا اليوم .. كل ما أتذكره هو أنني جالس في العربة الأخيرة من القطار الليلي المتوجه إلى الأسكندرية .. يجلس أمامي شخص هادئ الملامح .. خفيف اللحية .. يزحف الصلع على رأسه .. يجاوره شاب أسمر .. صامت .. تتدلى سماعات هاتفه من رقبته .. ويجاورني رجل في العقد الخامس .. يتدلى كرشه على فخذيه .. وتصرخ عيناه بنظرات أمنية صارمة .. علمت فيما بعد أنه يعمل في جهاز أمني .
عربة القطار تعج بالمسافرين لأماكن مختلفة وأهداف متنوعة .. فهناك مجموعة من الشباب يغنون بصوت عالي ويقرعون بالطبل على مقاعد القطار .. وقد حاول رجل ملتحي كبير السن أن ينهرهم مرارا وتكرارا ويوعدهم بجهنم إذا استمرو في فعلتهم .. ويظل رد فعلهم دائما ان يعلو بأصواتهم أكثر تحدياً له .. وقد علمت من أحدهم أنهم قد أنهو فترة الخدمة العسكرية ويحتفلون بذلك .
وهناك مجموعات تتحدث في السياسة .. وهناك أناساً نائمون بشكل مزري .. وهناك من يقف على باب القطار ويدلي جسمه بالكامل خارجه .
توقف القطار في بنها .. ودلف المسافرون أفواجاً .. كانت هناك بين المسافرون الجدد سيدة في الأربعين من عمرها .. حدثني ضميري بأن أدعها تأخذ مكاني .. فردت خلاياي العصبية على ضميري بأنها منهكة جداً ولا طاقة لها بتحمل الوقوف حتى الأسكندرية .. ويبدو أن الحوار بين ضميري وخلاياي العصبية طال حتى أن السيدة قد وجدت متطوع بالفعل قد قام وترك لها مكانه .. إبتسمت لنفسي في استحياء .
وسط المسافرون الجدد أيضاً كانت هناك مجموعة كبيرة من الشباب الذين دخلو العربة بكثير من الهرج والصوت العالي .. يرتدون الشورتات وملابس البحر .. وقد علمت فيما بعد أنهم ذاهبون للأسكندرية للتصييف .. غير ان نوعاً من الصراع قد نشأ بين تلك المجموعة والمجموعة التي أنهت خدمتها العسكرية .. تمحور الصراع في الأعلى ضجيجاً وإحتفالاً .. وكانت مجموعة بنها تنظر بكثير من الإستخفاف بالمجموعة الأخرى وتدعوهم بالفلاحين .. وازدادت حدة التنافس إلى أن انفجر أحد الراكبين يصرخ في وجوه المجموعتين بأن يصمتوا حيث أن الناس عائدين لبيوتهم منهكين من أعمالهم .. ولم يجد الرجل  المسكين من المجموعتين رداً سوى علو صوتهم أكثر .
وفي وسط كل هذا كنت أضع سماعة هاتفي في أذني كي أعزل نفسي عن العالم وحاولت أن أنام قليلاً .. ولكن هيهات .. وحين فشلت في النوم وجدت بائع شاي يمر بجانبي ناديته وأخذت كوباً من أردئ ما تذوقت في حياتي .. لم يكن شاياً .. أو كان شاي ولكن تم عمله بماء غير عذب .
الغريب أن مفعوله كشاي قد بدأ يعمل ووجدت نفسي أفيق قليلاً وأنتبه وأرصد ما يحدث حولي بدقة .
مر بائع آخر بجواري يبيع مسليات من الفول واللب .. وقد قام الشاب الأسمر الجالس أمامي بشراء كيساً من اللب .. وقد خالف ظني السيء حين ظننت أنه سيقوم بإلقاء القشر على الأرض .. إلا أنه أخرج كيساً فارغاً وقام بإلقاء القشر فيه .. مرة أخرى ابتسمت لنفسي في استحياء .
قام الشاب الأسمر بتوزيع قليلاً من اللب علينا .. إلا إنني رفضت .. لا أدري لماذا ولكن على الأرجح أنني أستحي أن آخذ شيئاً من الغرباء .. وعللت للشاب رفضي بأن ملوحة اللب سوف تعطشني وأن الجو حار أصلاً .. فلا داعي .. وهنا فوجئت بالرجل ذو الكرش والنظرة الأمنية يناولني زجاجة من الماء .. مرة أخرى رفضت أن آخذها .. ألح علي في نوع من الإستعلاء !! .. ولكنني رفضت مجدداً .. تحولت النظرة في عينيه إلى نظرة تقزز وأعاد الزجاجة إلى جانبه ولسان حاله يقول لنفسه أنه مخطئ أصلاً في عرضه .
لازالت المجموعات المتنافسة على الأعلى ضجيجاً مستمرة في المنافسة .. تهدأ أحياناً لتستريح .. وتعود مجدداً في صوت أعلى .. في الكراسي الخلفية لمجموعتي .. يجلس أربعة شباب يتحدثون حول الثورة ما بين اتهامات متبادلة واتفاقات نادرة .. وللأمانة لم تكن أصواتهم مزعجة بقدر المجموعات الأخرى .. إلا أن الرجل ذو النظرة الأمنية قام فجأة وإلتفت ناحية تلك المجموعة وأخذ يصيح فيهم أن يصمتو وقد استخدم في صياحه تعبيرات مهينة للشباب حيث انه اتهمهم انهم شباب "فاضي" لا شيء يشغله وانهم يتعبون الناس العائدة من عملها وانهم "صدّعوه" بأحاديثهم .. وهنا قام أحد الشباب بالرد عليه بصوت عالي مذكراً إياه بأن كلامه مهين وعليه أن يسحبه ويعتذر عنه .. حيث أنهم شباب مجندين ويؤدون خدمات تأمينية وأنهم مشغولين أكثر منه ومتعبون أكثر منه حيث أنهم يسهرون على خدمة وتأمين الوطن - حيث أنهم لازالو في فترة الخدمة العسكرية - بينما هو لايفعل شيء سوى الصراخ في الناس .. وأنه لم يحاول أن يردع الشباب الذين يغنون بأصوات مرتفعة وبدلاً من ذلك أخذ يصرخ في وجوه الهادئين أصلاً .. من باب "مقدرش عالحمار فبيتشطر عالبردعة" .. واحتد النقاش بينهم فقام الشخص الملتحي الجالس أمامي بالقيام للتهدئة بين الأطراف وقال للشاب حديثاً عن النبي فيما معناه أن للجار حق وأن عليه أن يهدئ من صوته لحق جاره المتعب عليه .. وبالطبع لم يقتنع الشاب وظل يبرر موقفه بأنه يهون على نفسه مشقة السفر المتعب أصلاً .. وأنه منهك أكثر من ذلك الرجل .. ودار النقاش دقائق معدودة إلى أن جلس كل منهم بعد أن قدما الإعتذارات المتبادلة لبعض ودعو لبعض بالهداية .. ومجدداً .. إبتسمت لنفسي في استحياء .
وصل القطار إلى طنطا .. وقد نزل كثيراً من الركاب .. وفي هذه الأثناء رأيت رجلاً قد دخل حمام القطار - المعروف جداً بقذارته - ولم يلبث سوى ثانيتين بالظبط وخرج مرة أخرى .. وقد عاد إلى مكانه دون أن يقضي حاجته .. ذكرني هذا بحاجتي المريعة لإفراغ مثانتي التي لم تستمع بهذه العملية منذ أكثر من ثلاثين ساعة .. فقمت مسرعاً إلى الحمام ذاته الذي دخله الرجل .. حين دخلت كان في ظني أنني سأرى مكاناً قذراً وحسب .. إلا أنني نلت صدمتين .. الأولى أنه لم َيكن هناك أي أبواب لهذا الحمام فتعجبت وخرجت - في الثانيتين نفسهما اللتين استغرقهما الرجل الآخر - ليدخل الحمام المقابل وحينما دخلت أخذت الصدمة الثانية .. نافذة الحمام غير موجودة .. بالأحرى كانت عبارة فتحة مربعة في جسم القطار ينظر من خلالها إلى المحطة التي يرقد الركاب على رصيفها ينظرون داخل الحمام وخارجه .. وقفت للحظات أفكر .. مثانتي تؤلمني .. أخذت أفك في حزام بنطالي تمهيداً للقيام بها .. وأخذت أتصبب عرقاً من الموقف .. وخصوصاً بعد ما وجدت سيدة تجلس على الرصيف وتنظر لي وتبتسم إبتسامة ساخرة .. حينها لما أعد أحتمل .. ربطت حزامي مرة أخرى في عجلة من أمري حتى أنني لم أغلقه جيداً .. وخرجت من الحمام مذهول .. قررت أن أبحث عن حمام يصلح في عربة أخرى .. ونظرت نظرة سريعة على حقيبتي الجالسة بمقعدي كي تحجزه لي .. أخذت القرار النهائي وجريت بسرعة ناحية العربة الأخرى وأنا أفكر في احتمال كارثي وهو أن يكون الحمام بالعربة الأخرى أسوأ حالاً .. وحينما وصلت الحمام .. تفحصت بابه .. وجدته موجود لكنه لا ينغلق .. ليس بالشيء المهم .. سأمسكه بيدي .. لكن الأهم كانت النافذة .. تفحصها فوجد زجاجها في مكانه ولكنه مرفوع حتى منتصف النافذة .. حاول أن يغلقه بالكامل إلا أنه عالق بشدة .
لا مناص .. سوف أفعلها .. هكذا حدثت نفسي .. نظرت نظرة أخيرة عبر النافذة لأجد المسافرين من القطار المقابل ينظرون .. ولكن الفارق انهم لن يرو وجهي .. سيرون فقط عورتي .. هكذا فككت حزامي وأطلقت العنان لمثانتي لتروي بالماء المالح الأرض تحت القطار من خلال الفتحة في الحمام المعدة خصيصاً لهذا الغرض .
لقد رأى الناس عورتي .. ليس مهماً مادمت لم أرى نظراتهم الساخرة تجاهي .
ما العورة أصلاً .. ما العيب في إظهار جزء من الجسم مثله مثل باقي الأجزاء .. هكذا حدثت نفسي وأنا أحاول تبرير الموقف لنفسي .. وفي آخر لحظة شعرت أني كالنعامة .. أدفن رأسي في الرمال وظني أنهم لن يروني .. سحقاً .. فليذهبو إلى الجحيم .
فرغت المثانة وقمت بربط حزامي مجدداً .. وخرجت من المكان المسمى مجازاً "حمام" وجريت إلى العربة وتأكدت من وجود حقيبتي في مكانها .. جلست وآخذت تنهيدة كبيرة "زي ماكون تعبان وإرتحت" دارت الجملة في رأسي .. أخرجت علبة سجائري وأشعلت سيجارة .. جلست أدخن مستغلاً نزول معظم الركاب وبقائي وحيدا في العربة .. اللهم إلا عدد محدود جداً من الركاب .
فجأة .. وبدون سابق إنذار .. تعالت صرخات من عربات القطار .. قمت مسرعاً لأبحث عن مصدر وسبب الصرخات .. فوجئت بالإجابة تدخل أنفي عبارة عن دخان !!
هناك حريق في القطار .. جريت بسرعة إلى العربة حيث الحريق ووجدته حريقاً محدوداً .. خلعت قميصي وحاولت أن أضرب النار كي أطفئها .. إلا أن بشكل ما النار إلتقطت ثيابي .. وأخذت أشتعل .. ويبدو أن الشجاعة قد قفزت من شباك القطار المسرع في هذه اللحظة .. لم يحاول أحد المشاهدين أن ينقذني .. صرخت وأنا أجري وأتقلب على الأرض كي أطفئ النار .. ويبدو أن كل ما زاد على الحريق هو جسمي المشتعل وبعض الصرخات الإضافية من بعض الركاب الذين إنضمو لمشاهدتي وأنا أحترق .
سأموت .. دارت الكلمة في عقلي الساخن بفعل الحريق .. وكل ما سيطر عليّ في هذه اللحظة هو انتظار وجه الملاك الذي سيظهر لي .. ملاك الرحمة أم العذاب .. وهل سيبقى إدراكي أصلاً لكي أرى ما سأمر به بعد الموت .
بشكل ما .. هدأت النار .. هل بفعل تقلبي المستمر على الأرض .. لا أدري .. إلا أن القطار بعد فترة كان قد دخل إحدى المحطات - كفر الدوار على ما أظن - وهناك حملوني أنا وأربع أشخاص مصابين مثلي ونقلونا على المستشفى .
بعد فترة علاج في المستشفى الحكومي القذر .. يبدو أنني لم أتحسن فيهم إلا قليلاً .. ولم يزرني من معارفي سوى أصدقائي المقربين جداً .. في حين أنني لم أبلغ أهلي بالخبر .. كان الحنق بلغ مبلغه وقررت أن أرفع قضية على هيئة السكة الحديد بسبب الإهمال .. وفعلا كلمت أحد أصدقائي المحامين وقد كان أن رفعت الدعوى على الهيئة .. وفي يوم الحكم .. فوجئت أنني - المجني عليه - مطالب بأن أدفع تعويض للهيئة !! .. السبب في أن البحث الجنائي أثبت أن سبب زيادة "حجم" الحريق هو "قداحتي" التي كانت في جيبي والتي إشتعلت أنا بسببها - كما يقول تقرير البحث الجنائي - ولذلك فأنا بشكل ما مشارك في  إندلاع الحريق .. بيد أن صديقي المحامي حينما واجهوني بهذه التهمة الجديدة استطاع أن يخرجني منها مقابل أن أتنازل عن حقي في التعويض المادي .
خرجت من المحكمة وقد طلبت من صديقي المحامي أن يتركني وحدي قليلاً .. أخذت أتجول بعصا أتوكأ عليها حتى بلغت كورنيش النيل .. جلست على السور وأخذت أتأمل الشمس في لحظة الغروب .. تأملتها وهي تغرب في بطئ شديد ممل وكأنها هي الأخرى تتأملني .. وفي لحظة .. توقف الزمن .. وتوقفت الشمس .. وتوقف النيل عن الجريان .. وتوقفت الطيور عن التغريد .. لحظة كنت حينها غير موجود في جسدي .. فوجئت بي وأنا خارج جسدي وأنظر له .. لأول مرة أدرك أن شكلي عجيب .. مع أنني رأيته في المرآة مراراً وتكراراً .. ولكن شكلي لم يعجبني حين خرجت منه .. نظرت للأرض وجدتني أطير .. وأبتعد .. وأبتعد .. وصغرت الدنيا .. وأظلمت .. واختفت واختفيت معها .

هناك تعليق واحد:

  1. نفس روائي جميل ... وإحساس عالي باللحظة ... لا تجعل اللغة وهي أداتك تركبك لا بد أن تركبها وتروضها ..

    ردحذف

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة