Translate

الثلاثاء، يوليو 31، 2012

بين ماضي مؤلم .. وحاضر أسود .. ومستقبل مجهول



تنتابني الحيرة كلما فكرت في حالي .. أنا المجهول الهوية المجهول الإنتماء المجهول المعتقد

عشت ماضي مؤلم .. أحاول نسيانه .. أنجح أحياناً وأفشل كثيراً .. وتمضي الحياه .. به أو بدونه .. لكن مؤكد أن النبش في القبور يعكر صفو الهواء النقي بعفن الجثث المتآكلة .. ومؤكد أن إسقاطات الماضي من خبرات وتجارب قاسية تعكر على الحاضر والمستقبل صفوهم .. فها أنا ذا كلما مررت بتجربة أتذكر مثيلتها بالماضي مما يوقفني كثيراً حتى يفقدني متعة التجربة والحياه .

وأما عن الحاضر .. فهو واقع أسود .. ويتمركز سواده أنه ثابت لا يتغير .. تلهينا الحياه كثيراً عن ذلك السواد بقليلاً من الرمادي .. ويحيد الثبات عن موقفه في بعض الأوقات بقليلاً من الإنحناء .. ولكن حتى هذا الحياد غير ثابت .. يأتي ويذهب بغير إنتظام .. يقولون أن دوام الحال من المحال .. ولكن يبدو أن كما لكل قاعدة إستثناء .. فهذا هو إستثناء قاعدة التغيير في هذا الحاضر الملعون .. فها هو ثابت السواد .. حتى بدرجاته الرمادية الغامقة والقليلة جداً .. ومن المضحك أن تعلم أن الحاضر لا تستطيع الإمساك به أصلا .. فهو اللحظة التي تلي الماضي أو تسبق المستقبل  بلحظة أو أقل .. فهو قد يكون مستقبل وقد يكون ماضي .

وأما المستقبل .. فهو مجهول .. والإنسان دائماً عدو ما يجهل .. كما أنه مرهون بالواقع الأسود والماضي المؤلم .. وكما أن الألم توأم الذاكرة .. فإن الماضي توأم الحاضر .. والمستقبل وليد لقيط .. بين ماضي يرفضه .. وحاضر ينكره .. فأي مستقبل هذا الذي ينتظرنا .. إنه عدو محصن بأسلحة تفوق قدراتنا على التخيل .. وعلينا أنا نحاربه ونحن لا نعلم عنه شيء .. في حين أن أسلحتنا لم تنقلنا أصلا من الماضي للحاضر .. الواقع أنها تعيدنا إلى الماضي مرة أخرى .. لذلك .. يظل المستقبل هو سيد الموقف حتى الآن .. هذا السيد الغامض الخاضع له كل البشر .. المسيطر علينا من سماوات سبع بعقيدة غيبية قادرة على إخراس كل الأصوات المخالفة له بما لا يملوكونه من أدلة تجعلهم يقفون أمامه .

وبين الماضي والحاضر والمستقبل أقف كمن يقف على مفترق طرق كلها أكثر إيلاماً من بعضها .. وعلى ما يبدو أن رفاهية الإختيار غير موجودة في هذه الحياه .. وأن القدر حقيقة .. ويبدو أيضاً أنه قد كتب بمداد أسود لا يزول بزوال الأيام .. أو أنه كالعنقاء .. يزول ليظهر بدلاً منه أضعاف من الأقدار الحمقاء القاتلة لكل طموح لدى الجنس البشري .. أو على الأقل العربي .
وهنا .. ينجلي إلى الوجود سؤال مهم : ما هي فائدة الحياه ؟؟

السبت، يوليو 21، 2012

تسلل


غرفة مظلمة
جدران حمراء
لا .. سوداء
في منتصف الغرفة
أجلس كالقرفصاء
أنظر في اللاشيء
كالبلهاء
تطير ذبابة في الفضاء
وتهبط على أنفي
وتقف أخرى بجانبها
فأتركهم طلقاء 
 
نافذة مربعة
في منتصف الحائط
منزوعة الطلاء
يتسلل خلالها
غبار وأتربة
وحرباء
وعناكيب وسحالي
وحشرات
وأشلاء
وروائح البركة العفنة
وأصوات الجيران المزعجة
ودموع البكاء
ووريد يلقي بدمه الفاسد
وبالوعة مجاري مفتوحة
وعصا معلمتي .. هناء
وقليل من ورق أخضر
مطحون بداخل أبيض
ودخان بالأنحاء
وصرخة فتاة تغتصب
وفوران جرح ملتهب
ومذبحة بالفناء
وقيثارة مقطعة الأوتار
وورد ذابل منهار
وكثير من الدماء
وأرض بور
وجثث الحور
ونشرة الأنباء
وهجوم النسور
وحريق الغور
وحبوباً زرقاء
وعلامة استفهام
واختناق زحام
وكرسي في الخلاء

------

الغرقة قلبي
والنافذة جرحي
والباقي أشياء
دخلت عنوة
وأخذت غفوة
وطالت في البقاء
 
هذا حالي
وفكري الخالي
من حل للبلاء

حورية البحر

البدايات .. لعنة كل قصة

أسير على شاطئ البحر .. ألهو بيداي في جيوبي الفارغة .. المثقوبة .. محني الرأس .. من حين لآخر أقوم بركل اللاشيء .. وأركله في غيظ أحيانا .. وبرقة أحيانا .. أقف لحظات لأتابع مشهد ما .. طائر النورس يصطاد الأسماك الملعونة .. سفينة عملاقة على خط الأفق تخرج منها الأشباح .. غواص في حضن البحر يبحث عن قوته .. أو حلمه .
يلسع شعاع الشمس جلدي فيقوم رذاذ الماء بتلطيف الحرارة .. وحين أصل لمنطقة الصخور على الشاطئ .. أجلس حيناً .. أتابع خط الأفق السرمدي .. وأرى ما أرى .
قطاراً يسير الهويني على قضباناً من زبد البحر .. جرار وثلاث عربات .. تتصاعد أعمدة من بخار الماء الساخن من مدخنة القطار وتعلو حتى السماء مكونة قوس قزح .. تلهو الدلافين حول القطار .. وتتقافز أعلاه من حين لآخر ..  تلمع أضواء من داخل عربات القطار .. هناك إحتفال ما يدور بالداخل .
أراقب الموقف في وجم .. ولم يعنيني ما أشاهد من مشهد خيالي .
فجأة .. يحيد القطار عن مساره .. ويتجه نحو الشاطئ .. يقترب القطار وأنا لازلت في وجومي .. ترفعه الأمواج تارة وتنزله تارة أخرى حتى يختفي بين الأمواج .. وإذا به يتوقف عند الصخور .. وتنفتح أبوابه .. حينها فقط إهتممت بالنظر داخل هذا القطار السحري .
دخان متلون بألون قوس قزح يخرج بكثافة من عربات القطار .. الرؤية غير واضحة .. الفضول داخلي يتزايد .. أقترب من العربة الأولى .. أسمع صوتاً يناديني بإسمي .. أدخل وسط الدخان وأنا أتحسس الجدران .. يزول الدخان تدريجيا حتى الدرجة التي تسمح لعيني برصد منتصف العربة فقط .. وهناك .. رأيتها .
سمكة لا أعرف تحديداً نوعها .. ولكن يكسوها لون وردي باهت حزين ..  السمكة في منتصف العربة .. تتقلب على جوانبها من حين لآخر .. وقفت مدهوشاً ومشدوداً .. اقتربت منها في توجس شديد .. خوفاً عليها .. وكدت أنا أترك العربة وأخرج .. لولا أنا سمعتها تناديني بإسمي .. وهنا فقط كسرت الحواجز وجريت ناحيتها .. حملتها بحنان على كفي .. نظرت لي بعين ناعسة .. حالمة .. ونادت إسمي مرة أخرى .. خفق قلبي بشدة حتى كاد أن يتوقف .. احتضنتها بين ذراعيّ .. وبحث عن أي مصدر للماء كي أحفظ رئتيها من الإنهيار بسبب الهواء العادي .. وجدت حوضاً زجاجيا لا بأس به .. مملوء بالماء .. وضعتها به دون تردد .. ولم أعلم لماذا لم أخرج من القطار  وأحررها في ماء البحر ... ويبدو أن هذا السبب تحديداً هو الذي جعلها تختفي فجأة حينما غفلت عنها للحظة واحدة !!!!
تحسست طريقي وخرجت من العربة الأولى .. أفكر ملياً في ما حدث .. ولما إختفت سمكتي .. وقته لم أجد أي تفسيرات منطقية .. ولسان حالي يقول : مابال المنطق بقطار سحري يمشي على الماء .
وحين كنت أفكر فيما حدث .. سمعت أصواتاً عديدة تخرج من العربة الثانية .. اقتربت متوجساً .. سمعت من جديد أصواتاً تنادي عليً .. تذكرت سمكتي .. وقررت البحث عنها بداخل العربة الثانية .. دخلت وسط الدخان الكثيف متحسساً مرة أخرى طريقي .. وقبل الوصول لمنتصف القطار .. إصطدمت بجسم لين .. وإذا به حصان البحر .. وكانت تلك أول مرة أراه في حياتي وجهاً لوجه .. سرحت عينايّ في شكله الجميل الودود - لدرجة أني نسيت كيف يقف في الهواء وهو كائن بحري - .. ناداني بإسمي .. فاقتربت .. ولكن اكتشف ان مصدر الصوت من الجهة الأخرى .. وحين إلتفت رأيت سمكة البهلوان بألوانها الزاهية الرائعة - وأيضاً تقف بشكل ساحر ما -  مشهدها أنساني كثيراً من همومي المتثاقلة على قلبي .. وحينها نادتني مجددا بإسمي .. وحينما اقتربت منها وجدت ان مصدر الصوت جهة أخرى .. توجهت ناحية مصدر الصوت لأجد سمكة أبو سيف هادئة في مكانها .. نادتني بإسمي مجدداً .. اقتربت منها .. وفي لحظة مفاجأة .. جرت نحوي السمكة شاهرة سيفها المدبب بإتجاهي .. جريت مبتعداً إلا أنني وجدت سمكة البهلوان وحصان البحر يسدان عليّ طريقي .. فجريت مبتعداً عنهم .. ولكني تهت في طريقي .. حتى أنني لم أجد طريق الخروج من العربة .. جلست على الأرض أغطي رأسي بذراعي .. منتظراً مصيري المحتوم .. فوجئت بيدٍ تسحبني من يداي وتطير بي فجأة خارج العربة .. وبسبب الدخان الكثيف لم أرى من قام بهذا .. وحينما خرجت من العربة أجبرت آشعة الشمس القوية حدقتاي أن تنغلق عن آخرهما لتصيبني بعمى مؤقت يجعلني لم أرى سوى ظل منقذي وهو يدلف إلى العربة الثالثة .
ناديته .. ولم يجيبني .. جريت خلفه .. ولكن كنت في غاية الخوف من الدخول للعربة الثالثة .. خوفاً من صدمة جديدة مثل فقدان سمكتي الأولى ومثل الهجوم الأخير .. ناديته .. يا منقذي .. أين أنت .. سمعت صوتا ضعيفا جداً لم يجعلني أتيقن إن كان ناداني أم أنه يجيب ندائي أم أنها مجرد هلوسة .. وهنا .. سمعت هدير محركات القطار يعلو فأيقنت أن القطار سيتحرك .. وبدأت أبواب القطار في الإنغلاق .. وفي جزء من الثانية دارت في عقلي كثيراً من المعادلات التي نتج عنها قراري بدخول العربة الثالثة مخاطراً بأن يبتلعني هذا القطار إلى الأبد .. وبالفعل جريت إلى داخل العربة الثالثة قبل أن ينغلق بابها ويتحرك القطار إلى وجهته مجدداً ناحية الأفق السرمدي .
هذه المرة كان الضباب أقل كثافة من سابقيه .. وإن كانت الرؤية لا تزال غير واضحة .. ومع تعمقي في السير داخل العربة .. وجدتها .. حورية البحر .

جمدت في مكاني .. اتسعت عيناي عن آخرهما .. فتحت فمي وأنا أشهق .. خانتني قدماي فوقعت على الأرض .. إلى أنني قبل أن ألامس الأرض .. وجدتها من تحتي تستقبل وقوعي بين أحضانها .. نظرت في عينيها الخلابة .. تهت في كون ساحر .. أضواء تعمي بصري وتقوي بصيرتي .. شعرت بأصابعها تلعب في شعري .. وأنفاسها الحارة تدفئ جسمي البارد وتعيد لدورة الحياه رونقها بداخلي .. مالت على رأسي وطبعت قبلة هادئة على جبيني .. انتابت جسمي قشعريرة حياه .. شعرت بهاله من الروح تحيط بي .. شعرت بجلدي تتفتح مسامه عن آخرها وتتنفس .. همست في أذني بإسمي .. فذاب كل ما كان صلباً بي .. وتلامست شفاهنا .. وتحول التلامس لعناق شفاه .. وغاص جسدي في كيانها .. وغاص كياني في جسدها .. وبعد حين .. غاب عقلي بأكمله عن الوجود .
فتحت عيني .. ومرة أخرى أجبرتني آشعة الشمس أن أغلقها .. وجدتني نائماً على الشاطئ .. قمت من رقدتي أبحث عن قطاري السحري .. إلا أنني لم أجده .. ألقيت بجسدي كله على الرمال .. أبكي .. أبكي بحرقة .. أصدم رأسي في الرمال .. أنظر للبحر وكلي حسرة .. أنادي بأعلى صوتي .. أين أنتي يا حوريتي .. أكان كله حلم  ؟؟ .. حلم جميل .. لن يتكرر .. من جديد أصدم رأسي في الرمل كالنعام .. وأمكث في هذا الوضع هنية .. ولازالت دموعي تروي الرمال .. وحين فتحت عيني وجدتني أنظر إلى قدم .. قدم رقيقة .. قدم نسائية .. قدم إمرأة .
رفعت رأسي وإذا بي أنظر إلى حوريتي .. ولكنها في ثوب آدمي .. فستان أحمر اللون .. وجدتها تنظر إلي نظرة تسائل عن سر بكائي .. لم أتكلم .. ولم أجاوب عيناها .. ولكني توقفت عن البكاء .. وقمت من على الأرض .. ونظرت ملياً في عينها .. وأخذت يدها فقبلتها .. وهي مستسلمة لما أفعله .. أخذتها في حضني .. فلم تنهرني .. جربت أن أغمض عيني وأفتحها .. وحين وجدتها لا تزال بحضني .. علمت أنني لا أحلم .. وأنني أحضن حوريتي .. حوريتي .

الأربعاء، يوليو 11، 2012

خواطر 3



لقد كُنت الحبيب .. وكُنت المحبوب
وكُنت الإله .. وكُنت العابد
في المُنتصَف .. كان القلب صامت
يُراقب
وفي لحظة
أصبح الكُل قَلباً .. والقلب كُلاً

-------------

طَغت الحواس على الأحداث
وثارت المشاعر على الكَلمات
وأدلى العقلُ بتَصريحات
فقال :
إنتهى عَصر الأرقام
وزالت واقعية الأقلام
واجتزنا خطر الأزمات

------------

اهتز جَسدي
لإجتماع أعضائه
فقد قررو إسناد مهامهم
لأتقى أتقيائه
قلبه
الفارس الخائض لجميع حروبه
المنتصر على جميع أعدائه
وخاصةً عدوه الّلدود
عقله

-----------

سلَّمت نَفسي إلى قلبي
بكامل الرضا والخضوع الحر
وألقيتُ في البحرِ عقلي
مُتأرجحاً .. ما بين مدٍ وجزر
وأقنعت بالتسليم جسدي
فسلّم وباشَ وزال المُر
وعالج القلب جُرحي
فصار الكُل جُزءاً .. وصار الجُزء كُل

الاثنين، يوليو 09، 2012

قطار الحياه


لا أتذكر كيف بدأ هذا اليوم .. كل ما أتذكره هو أنني جالس في العربة الأخيرة من القطار الليلي المتوجه إلى الأسكندرية .. يجلس أمامي شخص هادئ الملامح .. خفيف اللحية .. يزحف الصلع على رأسه .. يجاوره شاب أسمر .. صامت .. تتدلى سماعات هاتفه من رقبته .. ويجاورني رجل في العقد الخامس .. يتدلى كرشه على فخذيه .. وتصرخ عيناه بنظرات أمنية صارمة .. علمت فيما بعد أنه يعمل في جهاز أمني .
عربة القطار تعج بالمسافرين لأماكن مختلفة وأهداف متنوعة .. فهناك مجموعة من الشباب يغنون بصوت عالي ويقرعون بالطبل على مقاعد القطار .. وقد حاول رجل ملتحي كبير السن أن ينهرهم مرارا وتكرارا ويوعدهم بجهنم إذا استمرو في فعلتهم .. ويظل رد فعلهم دائما ان يعلو بأصواتهم أكثر تحدياً له .. وقد علمت من أحدهم أنهم قد أنهو فترة الخدمة العسكرية ويحتفلون بذلك .
وهناك مجموعات تتحدث في السياسة .. وهناك أناساً نائمون بشكل مزري .. وهناك من يقف على باب القطار ويدلي جسمه بالكامل خارجه .
توقف القطار في بنها .. ودلف المسافرون أفواجاً .. كانت هناك بين المسافرون الجدد سيدة في الأربعين من عمرها .. حدثني ضميري بأن أدعها تأخذ مكاني .. فردت خلاياي العصبية على ضميري بأنها منهكة جداً ولا طاقة لها بتحمل الوقوف حتى الأسكندرية .. ويبدو أن الحوار بين ضميري وخلاياي العصبية طال حتى أن السيدة قد وجدت متطوع بالفعل قد قام وترك لها مكانه .. إبتسمت لنفسي في استحياء .
وسط المسافرون الجدد أيضاً كانت هناك مجموعة كبيرة من الشباب الذين دخلو العربة بكثير من الهرج والصوت العالي .. يرتدون الشورتات وملابس البحر .. وقد علمت فيما بعد أنهم ذاهبون للأسكندرية للتصييف .. غير ان نوعاً من الصراع قد نشأ بين تلك المجموعة والمجموعة التي أنهت خدمتها العسكرية .. تمحور الصراع في الأعلى ضجيجاً وإحتفالاً .. وكانت مجموعة بنها تنظر بكثير من الإستخفاف بالمجموعة الأخرى وتدعوهم بالفلاحين .. وازدادت حدة التنافس إلى أن انفجر أحد الراكبين يصرخ في وجوه المجموعتين بأن يصمتوا حيث أن الناس عائدين لبيوتهم منهكين من أعمالهم .. ولم يجد الرجل  المسكين من المجموعتين رداً سوى علو صوتهم أكثر .
وفي وسط كل هذا كنت أضع سماعة هاتفي في أذني كي أعزل نفسي عن العالم وحاولت أن أنام قليلاً .. ولكن هيهات .. وحين فشلت في النوم وجدت بائع شاي يمر بجانبي ناديته وأخذت كوباً من أردئ ما تذوقت في حياتي .. لم يكن شاياً .. أو كان شاي ولكن تم عمله بماء غير عذب .
الغريب أن مفعوله كشاي قد بدأ يعمل ووجدت نفسي أفيق قليلاً وأنتبه وأرصد ما يحدث حولي بدقة .
مر بائع آخر بجواري يبيع مسليات من الفول واللب .. وقد قام الشاب الأسمر الجالس أمامي بشراء كيساً من اللب .. وقد خالف ظني السيء حين ظننت أنه سيقوم بإلقاء القشر على الأرض .. إلا أنه أخرج كيساً فارغاً وقام بإلقاء القشر فيه .. مرة أخرى ابتسمت لنفسي في استحياء .
قام الشاب الأسمر بتوزيع قليلاً من اللب علينا .. إلا إنني رفضت .. لا أدري لماذا ولكن على الأرجح أنني أستحي أن آخذ شيئاً من الغرباء .. وعللت للشاب رفضي بأن ملوحة اللب سوف تعطشني وأن الجو حار أصلاً .. فلا داعي .. وهنا فوجئت بالرجل ذو الكرش والنظرة الأمنية يناولني زجاجة من الماء .. مرة أخرى رفضت أن آخذها .. ألح علي في نوع من الإستعلاء !! .. ولكنني رفضت مجدداً .. تحولت النظرة في عينيه إلى نظرة تقزز وأعاد الزجاجة إلى جانبه ولسان حاله يقول لنفسه أنه مخطئ أصلاً في عرضه .
لازالت المجموعات المتنافسة على الأعلى ضجيجاً مستمرة في المنافسة .. تهدأ أحياناً لتستريح .. وتعود مجدداً في صوت أعلى .. في الكراسي الخلفية لمجموعتي .. يجلس أربعة شباب يتحدثون حول الثورة ما بين اتهامات متبادلة واتفاقات نادرة .. وللأمانة لم تكن أصواتهم مزعجة بقدر المجموعات الأخرى .. إلا أن الرجل ذو النظرة الأمنية قام فجأة وإلتفت ناحية تلك المجموعة وأخذ يصيح فيهم أن يصمتو وقد استخدم في صياحه تعبيرات مهينة للشباب حيث انه اتهمهم انهم شباب "فاضي" لا شيء يشغله وانهم يتعبون الناس العائدة من عملها وانهم "صدّعوه" بأحاديثهم .. وهنا قام أحد الشباب بالرد عليه بصوت عالي مذكراً إياه بأن كلامه مهين وعليه أن يسحبه ويعتذر عنه .. حيث أنهم شباب مجندين ويؤدون خدمات تأمينية وأنهم مشغولين أكثر منه ومتعبون أكثر منه حيث أنهم يسهرون على خدمة وتأمين الوطن - حيث أنهم لازالو في فترة الخدمة العسكرية - بينما هو لايفعل شيء سوى الصراخ في الناس .. وأنه لم يحاول أن يردع الشباب الذين يغنون بأصوات مرتفعة وبدلاً من ذلك أخذ يصرخ في وجوه الهادئين أصلاً .. من باب "مقدرش عالحمار فبيتشطر عالبردعة" .. واحتد النقاش بينهم فقام الشخص الملتحي الجالس أمامي بالقيام للتهدئة بين الأطراف وقال للشاب حديثاً عن النبي فيما معناه أن للجار حق وأن عليه أن يهدئ من صوته لحق جاره المتعب عليه .. وبالطبع لم يقتنع الشاب وظل يبرر موقفه بأنه يهون على نفسه مشقة السفر المتعب أصلاً .. وأنه منهك أكثر من ذلك الرجل .. ودار النقاش دقائق معدودة إلى أن جلس كل منهم بعد أن قدما الإعتذارات المتبادلة لبعض ودعو لبعض بالهداية .. ومجدداً .. إبتسمت لنفسي في استحياء .
وصل القطار إلى طنطا .. وقد نزل كثيراً من الركاب .. وفي هذه الأثناء رأيت رجلاً قد دخل حمام القطار - المعروف جداً بقذارته - ولم يلبث سوى ثانيتين بالظبط وخرج مرة أخرى .. وقد عاد إلى مكانه دون أن يقضي حاجته .. ذكرني هذا بحاجتي المريعة لإفراغ مثانتي التي لم تستمع بهذه العملية منذ أكثر من ثلاثين ساعة .. فقمت مسرعاً إلى الحمام ذاته الذي دخله الرجل .. حين دخلت كان في ظني أنني سأرى مكاناً قذراً وحسب .. إلا أنني نلت صدمتين .. الأولى أنه لم َيكن هناك أي أبواب لهذا الحمام فتعجبت وخرجت - في الثانيتين نفسهما اللتين استغرقهما الرجل الآخر - ليدخل الحمام المقابل وحينما دخلت أخذت الصدمة الثانية .. نافذة الحمام غير موجودة .. بالأحرى كانت عبارة فتحة مربعة في جسم القطار ينظر من خلالها إلى المحطة التي يرقد الركاب على رصيفها ينظرون داخل الحمام وخارجه .. وقفت للحظات أفكر .. مثانتي تؤلمني .. أخذت أفك في حزام بنطالي تمهيداً للقيام بها .. وأخذت أتصبب عرقاً من الموقف .. وخصوصاً بعد ما وجدت سيدة تجلس على الرصيف وتنظر لي وتبتسم إبتسامة ساخرة .. حينها لما أعد أحتمل .. ربطت حزامي مرة أخرى في عجلة من أمري حتى أنني لم أغلقه جيداً .. وخرجت من الحمام مذهول .. قررت أن أبحث عن حمام يصلح في عربة أخرى .. ونظرت نظرة سريعة على حقيبتي الجالسة بمقعدي كي تحجزه لي .. أخذت القرار النهائي وجريت بسرعة ناحية العربة الأخرى وأنا أفكر في احتمال كارثي وهو أن يكون الحمام بالعربة الأخرى أسوأ حالاً .. وحينما وصلت الحمام .. تفحصت بابه .. وجدته موجود لكنه لا ينغلق .. ليس بالشيء المهم .. سأمسكه بيدي .. لكن الأهم كانت النافذة .. تفحصها فوجد زجاجها في مكانه ولكنه مرفوع حتى منتصف النافذة .. حاول أن يغلقه بالكامل إلا أنه عالق بشدة .
لا مناص .. سوف أفعلها .. هكذا حدثت نفسي .. نظرت نظرة أخيرة عبر النافذة لأجد المسافرين من القطار المقابل ينظرون .. ولكن الفارق انهم لن يرو وجهي .. سيرون فقط عورتي .. هكذا فككت حزامي وأطلقت العنان لمثانتي لتروي بالماء المالح الأرض تحت القطار من خلال الفتحة في الحمام المعدة خصيصاً لهذا الغرض .
لقد رأى الناس عورتي .. ليس مهماً مادمت لم أرى نظراتهم الساخرة تجاهي .
ما العورة أصلاً .. ما العيب في إظهار جزء من الجسم مثله مثل باقي الأجزاء .. هكذا حدثت نفسي وأنا أحاول تبرير الموقف لنفسي .. وفي آخر لحظة شعرت أني كالنعامة .. أدفن رأسي في الرمال وظني أنهم لن يروني .. سحقاً .. فليذهبو إلى الجحيم .
فرغت المثانة وقمت بربط حزامي مجدداً .. وخرجت من المكان المسمى مجازاً "حمام" وجريت إلى العربة وتأكدت من وجود حقيبتي في مكانها .. جلست وآخذت تنهيدة كبيرة "زي ماكون تعبان وإرتحت" دارت الجملة في رأسي .. أخرجت علبة سجائري وأشعلت سيجارة .. جلست أدخن مستغلاً نزول معظم الركاب وبقائي وحيدا في العربة .. اللهم إلا عدد محدود جداً من الركاب .
فجأة .. وبدون سابق إنذار .. تعالت صرخات من عربات القطار .. قمت مسرعاً لأبحث عن مصدر وسبب الصرخات .. فوجئت بالإجابة تدخل أنفي عبارة عن دخان !!
هناك حريق في القطار .. جريت بسرعة إلى العربة حيث الحريق ووجدته حريقاً محدوداً .. خلعت قميصي وحاولت أن أضرب النار كي أطفئها .. إلا أن بشكل ما النار إلتقطت ثيابي .. وأخذت أشتعل .. ويبدو أن الشجاعة قد قفزت من شباك القطار المسرع في هذه اللحظة .. لم يحاول أحد المشاهدين أن ينقذني .. صرخت وأنا أجري وأتقلب على الأرض كي أطفئ النار .. ويبدو أن كل ما زاد على الحريق هو جسمي المشتعل وبعض الصرخات الإضافية من بعض الركاب الذين إنضمو لمشاهدتي وأنا أحترق .
سأموت .. دارت الكلمة في عقلي الساخن بفعل الحريق .. وكل ما سيطر عليّ في هذه اللحظة هو انتظار وجه الملاك الذي سيظهر لي .. ملاك الرحمة أم العذاب .. وهل سيبقى إدراكي أصلاً لكي أرى ما سأمر به بعد الموت .
بشكل ما .. هدأت النار .. هل بفعل تقلبي المستمر على الأرض .. لا أدري .. إلا أن القطار بعد فترة كان قد دخل إحدى المحطات - كفر الدوار على ما أظن - وهناك حملوني أنا وأربع أشخاص مصابين مثلي ونقلونا على المستشفى .
بعد فترة علاج في المستشفى الحكومي القذر .. يبدو أنني لم أتحسن فيهم إلا قليلاً .. ولم يزرني من معارفي سوى أصدقائي المقربين جداً .. في حين أنني لم أبلغ أهلي بالخبر .. كان الحنق بلغ مبلغه وقررت أن أرفع قضية على هيئة السكة الحديد بسبب الإهمال .. وفعلا كلمت أحد أصدقائي المحامين وقد كان أن رفعت الدعوى على الهيئة .. وفي يوم الحكم .. فوجئت أنني - المجني عليه - مطالب بأن أدفع تعويض للهيئة !! .. السبب في أن البحث الجنائي أثبت أن سبب زيادة "حجم" الحريق هو "قداحتي" التي كانت في جيبي والتي إشتعلت أنا بسببها - كما يقول تقرير البحث الجنائي - ولذلك فأنا بشكل ما مشارك في  إندلاع الحريق .. بيد أن صديقي المحامي حينما واجهوني بهذه التهمة الجديدة استطاع أن يخرجني منها مقابل أن أتنازل عن حقي في التعويض المادي .
خرجت من المحكمة وقد طلبت من صديقي المحامي أن يتركني وحدي قليلاً .. أخذت أتجول بعصا أتوكأ عليها حتى بلغت كورنيش النيل .. جلست على السور وأخذت أتأمل الشمس في لحظة الغروب .. تأملتها وهي تغرب في بطئ شديد ممل وكأنها هي الأخرى تتأملني .. وفي لحظة .. توقف الزمن .. وتوقفت الشمس .. وتوقف النيل عن الجريان .. وتوقفت الطيور عن التغريد .. لحظة كنت حينها غير موجود في جسدي .. فوجئت بي وأنا خارج جسدي وأنظر له .. لأول مرة أدرك أن شكلي عجيب .. مع أنني رأيته في المرآة مراراً وتكراراً .. ولكن شكلي لم يعجبني حين خرجت منه .. نظرت للأرض وجدتني أطير .. وأبتعد .. وأبتعد .. وصغرت الدنيا .. وأظلمت .. واختفت واختفيت معها .

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة